الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم إلخ) ذكر فيه حديث أبي هريرة بلفظ الترجمة. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا الشرح: قوله (عن سعيد بن المسيب) في رواية حجاج بن محمد عن الليث بسنده " أخبرني سعيد"، والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة، ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف. وقد جاء لهذا الحديث سبب أخرجه سنيد في تفسيره بسند واه والطبراني عن ابن عمر " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون، فقال: والذي نفسي بيده " فذكر هذا الحديث. وعن الحسن البصري " من علم أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الله تعالى مشهده، فحقه أن يطول في الدنيا حزنه " قال الكرماني: في هذا الحديث من صناعة البديع مقابلة الضحك بالبكاء والقلة بالكثرة ومطابقة كل منهما الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا الشرح: حديث أنس، وهو طرف من حديث تقدم في تفسير المائدة ويأتي شرحه في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى، والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة، ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف. وقد جاء لهذا الحديث سبب أخرجه سنيد في تفسيره بسند واه والطبراني عن ابن عمر " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون، فقال: والذي نفسي بيده " فذكر هذا الحديث. وعن الحسن البصري " من علم أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الله تعالى مشهده، فحقه أن يطول في الدنيا حزنه " قال الكرماني: في هذا الحديث من صناعة البديع مقابلة الضحك بالبكاء والقلة بالكثرة ومطابقة كل منهما *3* الشرح: قوله (باب حجبت النار بالشهوات) كذا للجميع، ووقع عند أبي نعيم " حفت " بدل " حجبت " أي غطيت بها فكانت الشهوات سببا للوقوع في النار. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحُجِبَتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ الشرح: قوله (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس. قوله (حدثني مالك) هذا الحديث ليس في الموطأ، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه عن الهيثم بن خلف عن البخاري، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن إسماعيل، وأخرجه الدار قطني " الغرائب " من رواية إسماعيل، ومن طريق سعيد بن داود وإسحاق بن محمد الفروي أيضا عن مالك، وأخرجه أيضا من رواية عبد الله ابن وهب عن مالك به لكن وقفه. قوله (عن أبي الزناد) في رواية سعيد بن داود " أخبرنا أبو الزناد". قوله (عن الأعرج عن أبي هريرة) في رواية سعيد بن داود " أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول". قوله (حجبت) كذا للجميع في الموضعين إلا الفروي فقال " حفت " في الموضعين، وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء بن عمر عن أبي الزناد، وكذا أخرجه مسلم والترمذي من حديث أنس. وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشق عليها. وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة، فأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه " لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها، قال فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فرجع فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات فقال: ارجع إليها، فرجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد " فهذا يفسر رواية الأعرج، فإن المراد بالمكاره هنا ما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلا وتركا كالإتيان بالعبادات على وجهها والمحافظة عليها واجتناب المنهيات قولا وفعلا، وأطلق عليها المكاره لمشقتها على العامل وصعوبتها عليه ومن جملتها الصبر على المصيبة والتسليم لأمر الله فيها؛ والمراد بالشهوات ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع من تعاطيه إما بالأصالة وإما لكون فعله يستلزم ترك شيء من المأمورات، ويلتحق بذلك الشبهات والإكثار مما أبيح خشية أن يوقع في المحرم، فكأنه قال: لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المشقات المعبر عنها بالمكروهات، ولا إلى النار إلا بتعاطي الشهوات، وما محجوبتان فمن هتك الحجاب اقتحم. ويحتمل أن يكون هذا الخبر وإن كان بلفظ الخبر فالمراد به النهي. وقوله "حفت " بالمهملة والفاء من الحفاف وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلا بتخطيه فالجنة لا يتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا ينجي منها إلا بترك الشهوات. وقال ابن العربي: معنى الحديث أن الشهوات جعلت على حفافي النار وهي جوانبها، وتوهم بعضهم أنها ضرب بها المثل فجعلها في جوانبها من خارج، ولو كان ذلك كان مثلا صحيحا، وإنما هي من داخل، وهذه صورتها: فمن اطلع الحجاب فقد واقع ما وراءه؛ وكل من تصورها من خارج فقد ضل عن معنى الحديث. ثم قال: فإن قيل فقد جاء في البخاري " حجبت النار بالشهوات " فالجواب أن المعنى واحد، لأن الأعمى عن التقوى الذي قد أخذت الشهوات سمعه وبصره يراها ولا يرى النار التي هي فيها، وذلك لاستيلاء الجهالة والغفلة على قلبه، فهو كالطائر يرى الحبة في داخل الفخ وهي محجوبة به ولا يرى الفخ لغلبة شهوة الحبة على قلبه وتعلق باله بها. قلت: بالغ كعادته في تضليل من حمل الحديث على ظاهره، وليس ما قاله غيره ببعيد، وأن الشهوات على جانب النار من خارج فمن واقعها وخرق الحجاب دخل النار، كما أن الذي قاله القاضي محتمل والله أعلم. (تنبيه) : أدخل ابن بطال في هذا الباب حديثي الباب الذي بعده وحذف الترجمة التي تليه وهي ثابتة في جميع الأصول، وفيها الحديثان وليس في الذي قبلها إلا حديث أبي هريرة. *3* الشرح: قوله (باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) هذه الترجمة حذفها ابن بطال، وذكر الحديثين اللذين فيها في الباب الذي قبلها، والمناسبة ظاهرة لكن الذي ثبت في الأصول التفرقة. الحديث: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ الشرح: قوله (حدثنا موسى بن مسعود) هو أبو حذيفة النهدي وهو بكنيته أشهر، وسفيان شيخه هو الثوري، وعبد الله هو ابن مسعود، والسند كله كوفيون. قوله (شراك) تقدم ضبطه وبيانه في أواخر كتاب اللباس وأنه السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل، ويطلق أيضا على كل سير وقي به القدم. قال ابن بطال: فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة وإن المعصية مقربة إلى النار، وإن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء. وتقدم في هذا المعنى قريبا حديث " إن الرجل ليتكلم بالكلمة " الحديث، فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها. وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ الشرح: حديث أبي هريرة، وقد تقدم في أوائل السيرة النبوية وفي الأدب. قوله (أصدق بيت) أطلق البيت على بعضه مجازا، فإن الذي ذكره نصفه وهو المصراع الأول المسمى عروض البيت، وأما نصفه الثاني وهو المسمى بالضرب فهو " وكل نعيم لا محالة زائل". ويحتمل أن يكون على سبيل الاكتفاء فأشار بأول البيت إلى بقيته والمراد كله، وعكسه ما مضى في " باب ما يجوز من الشعر " في كتاب الأدب بلفظ " أصدق كلمة " فإن المراد بها القصيدة وقد أطلقها وأراد البيت، وتقدم شرح هذا الحديث في أيام الجاهلية، وأورده فيها أيضا بلفظ " أصدق كلمة " وهو المشهور. وذكرت هناك أن في رواية شريك عند مسلم بلفظ " أشعر كلمة تكلمت بها العرب " وبحث السهيلي في ذلك، وذكرت أيضا ما أورده ابن إسحاق في السيرة فيما جرى لعثمان بن مظعون مع لبيد بن ربيعة ناظم هذا البيت حيث قال له لما أنشد المصراع الأول: صدقت، ولما أنشد المصراع الثاني: كذبت، ثم قال له: نعيم الجنة لا يزول. وذكرت توجيه كل من الأمرين، وأن كل من صدق بأن ما خلا الله باطل فقد صدق ببطلان ما سواه، فيدخل نعيم الجنة، بما حاصله أن المراد بالباطل هنا الهالك، وكل شيء سوى الله جائز عليه الفناء وإن خلق فيه البقاء بعد ذلك كنعيم الجنة، والله أعلم. وقال ابن بطال هنا: قوله " ما خلا الله باطل " لفظ عام أريد به الخصوص، والمراد أن كل ما قرب من الله فليس بباطل. وأما أمور الدنيا التي لا تئول إلى طاعة الله فهي الباطل انتهى. ولعل الأول أولى. (تنبيه) : مناسبة هذا الحديث الثاني للترجمة خفية، وكأن الترجمة لما تضمنت ما في الحديث الأول من التحريض على الطاعة ولو قلت والزجر عن المعصية ولو قلت فيفهم أن من خالف ذلك إنما يخالفه لرغبة في أمر من أمور الدنيا، وكل ما في الدنيا باطل كما صرح به الحديث الثاني، فلا ينبغي للعاقل أن يؤثر الفاني على الباقي. *3* الشرح: قوله (باب لينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو فوقه) هذا لفظ حديث أخرجه مسلم بنحوه من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم". الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ الشرح: قوله (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس. قوله (عن أبي الزناد) في رواية ابن وهب عن مالك " حدثني أبو الزناد " أخرجه الدار قطني في " الغرائب". قوله (عن الأعرج) في رواية سعيد بن داود عن مالك " حدثني أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة " أخرجه الدار قطني أيضا، وضاق مخرجه على أبي نعيم فأخرجه من طريق القاسم بن زكريا عن البخاري، وأخرجه الإسماعيلي من طريق حميد بن قتيبة عن إسماعيل والدار قطني من وجهين عن إسماعيل. قوله (إذا نظر أحدكم إلى من فضل) بالفاء والمعجمة على البناء للمجهول. قوله (في المال والخلق) بفتح الخاء أي الصورة، ويحتمل أن يدخل في ذلك الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا، ورأيته في نسخة معتمدة من " الغرائب " للدار قطني " والخلق " بضم الخاء واللام. قوله (فلينظر إلى من هو أسفل منه) في رواية عبد العزيز بن يحيى عن مالك " فلينظر إلى من تحته " أخرجه الدار قطني أيضا. ويجوز في أسفل الرفع والنصب والمراد بذلك ما يتعلق بالدنيا. قوله (ممن فضل عليه) كذا ثبت في آخر هذا الحديث عند مسلم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد، وكذا ثبت لمالك الذي أخرجه البخاري من طريقه عند الدار قطني من رواية سعيد بن داود عنه بسند صحيح، وزاد مسلم من طريق أبي صالح المذكورة " فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " أي هو حقيق بعدم الازدراء وهو افتعال من زريت عليه وأزريت به إذا تنقصته، وفي معناه ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الله ابن الشخير رفعه " أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله " قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدا فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالا منه. فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده. وقال غيره: في هذا الحديث دواء الداء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعيا إلى الشكر. وقد وقع في نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه قال " خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به". وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته فإنه لا يكتب شاكرا ولا صابرا. *3* الشرح: قوله (باب من هم بحسنة أو بسيئة) الهم ترجيح قصد الفعل، تقول هممت بكذا أي قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا جَعْدُ بْنُ دِينَارٍ أَبُو عُثْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً الشرح: قوله (حدثنا أبو معمر) هو عبد الله بن عمرو بن الحجاج المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف، وعبد الوارث هو ابن سعيد، والسند كله بصريون، وجعد بن دينار تابعي صغير وهو الجعد أبو عثمان الراوي عن أنس في أواخر النفقات وفي غيرها. قوله (عن ابن عباس) في رواية الحسن بن ذكوان عن أبي رجاء " حدثني ابن عباس " أخرجه أحمد. قوله (عن النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية مسدد عند الإسماعيلي " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولم أر في شيء من الطرق التصريح بسماع ابن عباس له من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله (فيما يروى عن ربه) هذا من الأحاديث الإلهية، ثم هو محتمل أن يكون مما تلقاه صلى الله عليه وسلم عن ربه بلا واسطة ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك وهو الراجح. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية ويحتمل أن يكون للبيان لما فيه من الإسناد الصريح إلى الله حيث قال: " إن الله كتب " ويحتمل أن يكون لبيان الواقع وليس فيه أن غيره ليس كذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، بل فيه أن غيره كذلك إذ قال " فيما يرويه " أي في جملة ما يرويه انتهى ملخصا. والثاني لا ينافي الأول وهو المعتمد، فقد أخرجه مسلم من طريق جعفر بن سليمان عن الجعد ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو عوانة من طريق عفان، وأبو نعيم من طريق قتيبة كلاهما عن جعفر بلفظ " فيما يروي عن ربه قال: إن ربكم رحيم، من هم بحسنة " وسيأتي في التوحيد من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل إذا أراد عبدي أن يعمل " وأخرجه مسلم بنحوه من هذا الوجه ومن طرق أخرى منها عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل إذا هم عبدي". قوله (إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات) يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى فيكون التقدير قال الله إن الله كتب، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يحكيه عن فعل الله تعالى وفاعل " ثم بين ذلك " هو الله تعالى، وقوله "فمن هم " شرح ذلك. قوله (ثم بين ذلك) أي فصله بقوله " فمن هم " والمجمل قوله " كتب الحسنات والسيئات " وقوله كتب قال الطوفي أي أمر الحفظة أن تكتب، أو المراد قدر ذلك في علمه على وفق الواقع منها. وقال غيره المراد قدر ذلك وعرف الكتبة من الملائكة ذلك التقدير، فلا يحتاج إلى الاستفسار في كل وقت عن كيفية الكتابة لكونه أمرا مفروغا منه انتهى. وقد يعكر على ذلك ما أخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة رفعه قال: " قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها " فهذا ظاهره وقوع المراجعة لكن ذلك مخصوص بإرادة عمل السيئة، ويحتمل أن يكون ذلك وقع في ابتداء الأمر فلما حصل الجواب استقر ذلك فلا يحتاج إلى المراجعة بعده. وقد وجدت عن الشافعي ما يوافق ظاهر الخبر، وأن المؤاخذة إنما تقع لمن هم على الشيء فشرع فيه. لا من هم به ولم يتصل به العمل، فقال في صلاة الخوف لما ذكر العمل الذي يبطلها ما حاصله: إن من أحرم بالصلاة وقصد القتال فشرع فيه بطلت صلاته، ومن تحرم وقصد إلى العدو لو دهمه دفعه بالقتال لم تبطل. قوله (فمن هم) كذا في رواية ابن سيرين عن أبي هريرة عند مسلم. وفي رواية الأعرج في التوحيد " إذا أراد " وأخرجه مسلم من هذا الوجه بلفظ " إذا هم " كذا عنده من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فهما بمعنى واحد، ووقع لمسلم أيضا من رواية همام عن أبي هريرة بلفظ " إذا تحدث " وهو محمول على حديث النفس لتوافق الروايات الأخرى، ويحتمل أن يكون على ظاهره ولكن ليس قيدا في كتابة الحسنة بل بمجرد الإرادة تكتب الحسنة، نعم ورد ما يدل على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي، فعند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث خريم بن فاتك رفعه " ومن هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه وحرص عليها " وقد تمسك به ابن حبان فقال بعد إيراد حديث الباب في صحيحه: المراد بالهم هنا العزم. ثم قال: ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها وإن لم يعزم عليها زيادة في الفضل. قوله (فلم يعملها) يتناول نفى عمل الجوارح، وأما عمل القلب فيحتمل نفيه أيضا إن كانت الحسنة تكتب بمجرد الهم كما في معظم الأحاديث، لا أن قيدت بالتصميم كما في حديث خريم، ويؤيد الأول حديث أبي ذر عند مسلم أن الكف عن الشر صدقة. قوله (كتبها الله له) أي للذي هم بالحسنة (عنده) أي عند الله (حسنة كاملة) كذا ثبت في حديث ابن عباس دون حديث أبي هريرة وغيره وصف الحسنة بكونها كاملة، وكذا قوله " عنده " وفيهما نوعان من التأكيد: فأما العندية فإشارة إلى الشرف، وأما الكمال فإشارة إلى رفع توهم نقصها لكونها نشأت عن الهم المجرد. فكأنه قيل بل هي كاملة لا نقص فيها. قال النووي: أشار بقوله " عنده " إلى مزيد الاعتناء به، وبقوله " كاملة " إلى تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها، وعكس ذلك في السيئة فلم يصفها بكاملة بل أكدها بقوله " واحدة " إشارة إلى تخفيفها مبالغة في الفضل والإحسان. ومعنى قوله: " كتبها الله " أمر الحفظة بكتابتها بدليل حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد بلفظ: " إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها " وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما بإطلاع الله إياه أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني قال: " ينادي الملك اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول يا رب إنه لم يعمله، فيقول إنه نواه " وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة وبالحسنة رائحة طيبة. وأخرج ذلك الطبري عن أبي معشر المدني، وجاء مثله عن سفيان بن عيينة ورأيت لا شرح مغلطاي أنه ورد مرفوعا، قال الطوفي إنما كتبت الحسنة بمجرد الإرادة لأن إرادة الخير سبب إلى العمل وإرادة الخير خير لأن إرادة الخير من عمل القلب، واستشكل بأنه إذا كان كذلك فكيف لا تضاعف لعموم قوله: واستدل بقوله حسنة كاملة على أنها تكتب حسنة مضاعفة لأن ذلك هو الكمال لكنه مشكل يلزم منه مساواة من نوى الخير بمن فعله في أن كلا منهما يكتب له حسنة. وأجيب بأن التضعيف في الآية يقتضي اختصاصه بالعامل لقوله تعالى: قوله (فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات) يؤخذ منه رفع توهم أن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف فتكون الجملة إحدى عشرة على ما هو ظاهر رواية جعفر بن سليمان عند مسلم ولفظه: " فإن عملها كتبت له عشر أمثالها " وكذا في حديث أبي هريرة وفي بعض طرقه احتمال، ورواية عبد الوارث في الباب ظاهرة فيما قلته وهو المعتمد، قال ابن عبد السلام في أماليه: معنى الحديث إذا هم بحسنة فإن كتبت له حسنة عملها كملت له عشرة لأنا نأخذ بقيد كونها قد هم بها، وكذا السيئة إذا عملها لا تكتب واحدة للهم وأخرى للعمل بل تكتب واحدة فقط. قلت: الثاني صريح في حديث هذا الباب، وهو مقتضى كونها في جميع الطرق لا تكتب بمجرد الهم، وأما حسنة الهم بالحسنة فالاحتمال قائم، وقوله بقيد كونها قد هم بها يعكر عليه من عمل حسنة بغتة من غير أن يسبق له أنه هم بها فإن قضية كلامه أنه يكتب له تسعة وهو خلاف ظاهر الآية قوله (إلى سبعمائة ضعف) الضعف في اللغة المثل، والتحقيق أنه اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر، فإذا قيل ضعف العشرة فهم أن المراد عشرون، ومن ذلك لو أقر بأن له عندي ضعف درهم لزمه درهمان أو ضعفي درهم لزمه ثلاثة. قوله (إلى أضعاف كثيرة) لم يقع في شيء من طرق حديث أبي هريرة " إلى أضعاف كثيرة " إلا في حديثه الماضي في الصيام فإن في بعض طرقه عند مسلم " إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله " وله من حديث أبي ذر رفعه " يقول الله من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد " وهو بفتح الهمزة وكسر الزاي، وهذا يدل على أن تضعيف حسنة العمل إلى عشرة مجزوم به وما زاد عليها جائز وقوعه بحسب الزيادة في الإخلاص وصدق العزم وحضور القلب وتعدي النفع كالصدقة الجارية والعلم النافع والسنة الحسنة وشرف العمل ونحو ذلك، وقد قيل إن العمل الذي يضاعف إلى سبعمائة خاص بالنفقة في سبيل الله، وتمسك قائله بما في حديث خريم بن فاتك المشار إليه قريبا رفعه " من هم بحسنة فلم يعملها " فذكر الحديث وفيه " ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله كانت له بسبعمائة ضعف " وتعقب بأنه صريح في أن النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة وليس فيه نفي ذلك عن غيرها صريحا، ويدل على التعميم حديث أبي هريرة الماضي في الصيام " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " الحديث واختلف في قوله تعالى قوله (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة) المراد بالكمال عظم القدر كما تقدم لا التضعيف إلى العشرة، ولم يقع التقييد بكاملة في طرق حديث أبي هريرة، وظاهر الإطلاق كتابة الحسنة بمجرد الترك، لكنه قيده في حديث الأعرج عن أبي هريرة كما سيأتي في كتاب التوحيد ولفظه " إذا أراد عبدي أن يعمل سيئه فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة " وأخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن لم يقع عنده " من أجلي " ووقع عنده من طريق همام عن أبي هريرة " وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَرَّاي " بفتح الجيم وتشديد الراء بعد الألف ياء المتكلم وهي بمعنى من أجلي، ونقل عياض عن بعض العلماء أنه حمل حديث ابن عباس على عمومه، ثم صوب حمل مطلقه على ما قيد في حديث أبي هريرة. قلت: ويحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر والكف عن الشر خير، ويحتمل أيضا أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة، فإن تركها من مخافة ربه سبحانه كتبت حسنة مضاعفة. وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركا إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلا فيجد الباب مغلقا ويتعسر فتحه، ومثله من تمكن من الزنا مثلا فلم ينتشر أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلا. ووقع في حديث أبي كبشة الأنماري ما قد يعارض ظاهر حديث الباب، وهو ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه بلفظ " إنما الدنيا لأربعة " فذكر الحديث وفيه " وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يعمل في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يرى لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء " فقيل الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فتحمل الحالة الأولى على من هم بالمعصية هما مجردا من غير تصميم، والحالة الثانية على من صمم على ذلك وأصر عليه. وهو موافق لما ذهب إليه الباقلاني وغيره؛ قال المازري: ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم، وجمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر. قال المازري: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ونقل ذلك عن نص الشافعي، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة فيما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ " فأنا أغفرها له ما لم يعملها " فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به. وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية ومما يدل على ذلك حديث " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالمقابل والمقتول في النار، قيل هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه " وسيأتي سياقه وشرحه في كتاب الفتن، والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا عاقب عقاب من باشر القتل خسا. وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب منها ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم به ابن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى قال النووي: وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى قال: والدليل على التفريق بين الهم والعزم أن من كان في الصلاة فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صمم على قطعها بطلت. وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود، للفرق بين ما هو بالقصد وما هو بالوسيلة. وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقساما يظهر منها الجواب عن الثاني، أضعفها أن يخطر له ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة وهو معفو عنه وهو دون التردد، وفوقه أن يتردد فيه فيهم به ثم ينفر عنه فيتركه ثم يهم به ثم يترك كذلك ولا يستمر على قصده، وهذا هو التردد فيعفى عنه أيضا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه لكن لا يصمم على فعله وهذا هو الهم فيعفى عنه أيضا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه بل يصمم على فعله فهذا هو العزم وهو منتهى الهم، وهو على قسمين: القسم الأول أن يكون من أعمال القلوب صرفا كالشك في الوحدانية أو النبوة أو البعث فهذا كفر ويعاقب عليه جزما، ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغض - الله ويبغض ما يحبه الله ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك فهذا يأثم، ويلتحق به الكبر والعجب والبغي والمكر والحسد، وفي بعض هذا خلاف. فعن الحسن البصري أن سوء الظن بالمسلم وحسده معفو عنه وحملوه على ما يقع في النفس مما لا يقدر على دفعه. لكن من يقع له ذلك مأمور بمجاهدته النفس على تركه والقسم الثاني أن يكون من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة فهو الذي وقع فيه النزاع، فذهبت طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلا، ونقل عن نص الشافعي، ويؤيده ما وقع في حديث خريم بن فاتك المنبه عليه قبل فإنه حيث ذكر الهم بالحسنة قال: علم الله أنه أشعرها قلبه وحرص عليها، وحيث ذكر الهم بالسيئة لم يقيد بشيء بل قال فيه: ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، والمقام مقام الفضل فلا يليق التحجير فيه. وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بما يهم به؟ قال: إذا جزم بذلك. واستدل كثير منهم بقوله تعالى ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة: يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم. وقالت طائفة: بل يعاقب عليه يوم القيامة لكن بالعتاب لا بالعذاب، وهذا قول ابن جريج والربيع بن أنس وطائفة ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا، واستدلوا بحديث النجوى الماضي شرحه في " باب ستر المؤمن على نفسه " من كتاب الأدب، واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهم بالمعصية ما يقع في الحرم المكي ولو لم يصمم لقوله تعالى وقال السبكي الكبير: الهاجس لا يؤاخذ به إجماعا، والخاطر وهو جريان ذلك الهاجس وحديث النفس لا يؤاخذ بهما للحديث المشار إليه، والهم وهو قصد فعل المعصية مع التردد لا يؤاخذ به الحديث الباب، والعزم - وهو قوة ذلك القصد أو الجزم به ورفع التردد - قال المحققون يؤاخذ به. وقال بعضهم لا واحتج بقول أهل اللغة: هم بالشيء عزم عليه، وهذا لا يكفي، قال: ومن أدلة الأول حديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما " الحديث، وفيه أنه كان حريصا على قتل صاحبه فعلل بالحرص، واحتج بعضهم بأعمال القلوب ولا حجة معه لأنها على قسمين: أحدهما لا يتعلق بفعل خارجي وليس البحث فيه، والثاني بتعلق بالملتقيين عزم كل منهما على قتل صاحبه واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه وهو شهر السلاح وإشارته به إلى الآخر فهذا الفعل يؤاخذ به سواء حصل القتل أم لا. انتهى. ولا يلزم من قوله " فالقاتل والمقتول في النار " أن يكونا في درجة واحدة من العذاب بالاتفاق. قوله (فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة) في رواية الأعرج " فاكتبوها له بمثلها " وزاد مسلم في حديث أبي ذر " فجزاؤه بمثلها أو أغفر " وله في آخر حديث ابن عباس أو " يمحوها " والمعنى أن الله يمحوها بالفضل أو بالتوبة أو بالاستغفار أو بعمل الحسنة التي تكفر السيئة، والأول أشبه لظاهر حديث أبي ذر، وفيه رد لقول من ادعى أن الكبائر لا تغفر إلا بالتوبة، ويستفاد من التأكيد بقوله " واحدة " أن السيئة لا تضاعف كما تضاعف الحسنة، وهو على وفق قوله تعالى {فلا يجزي إلا مثلها} قال ابن عبد السلام في أماليه: فائدة التأكيد دفع توهم من يظن الله إذا عمل السيئة كتبت عليه سيئة العمل وأضيفت إليها سيئة الهم، وليس كذلك إنما يكتب عليه سيئة واحدة. وقد استثنى بعض العلماء وقوع المعصية في الحرم المكي. قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد هل ورد في شيء من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا، ما سمعت إلا بمكة لتعظيم البلد. والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة لكن قد يتفاوت بالعظم، ولا يرد على ذلك قوله تعالى *3* الشرح: قوله (باب ما يتقى من محقرات الذنوب) التعبير بالمحقرات وقع في حديث سهل بن سعد رفعه " إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه " أخرجه أحمد بسند حسن، ونحوه عند أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، وعند النسائي وابن ماجه عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا " وصححه ابن حبان. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ غَيْلَانَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ الشرح: قوله (مهدي) هو ابن ميمون، وغيلان بمعجمة ثم تحتانية وزن عجلان هو ابن جامع والسند كله بصريون. قوله (هي أدق) أفعل تفضيل من الدقة بكسر الدال إشارة إلى تحقيرها وتهوينها، وتستعمل في تدقيق النظر في العمل والإمعان فيه أي تعملون أعمالا تحسبونها هينة وهي عظيمة أو تؤول إلى العظم. قوله (إن كنا لنعدها) كذا للأكثر بلام التأكيد. وفي رواية أبي ذر عن السرخسي والمستملي بحذفها وبحذف الضمير أيضا ولفظهما " إن كنا نعد " وله عن الكشميهني " إن كنا نعدها " وإن مخففة من الثقيلة وهي للتأكيد. قوله (من الموبقات) بموحدة وقاف، وسقط لفظ " من " للسرخسي والمستملي أيضا. قوله (قال أبو عبد الله) هو المصنف (يعني بذلك المهلكات) أي الموبقة هي المهلكة، ووقع للإسماعيلي من طريق إبراهيم بن الحجاج عن مهدي " كنا نعدها ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر " وكأنه ذكره بالمعنى. وقال ابن بطال: المحقرات إذا كثرت صارت كبارا مع الإصرار، وقد أخرج أسد بن موسى في الزهد عن أبي أيوب الأنصاري قال: " إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها وينسى المحقرات فيلقى الله وقد أحاطت به، وإن الرجل ليعمل السيئة فلا يزال منها مشفقا حتى يلقى الله آمنا". *3* الشرح: قوله (باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها) ذكر فيه حديث سهل بن سعد في قصة الذي قتل نفسه وفي آخره " وإنما الأعمال بالخواتيم " وتقدم شرح القصة في غزوة خيبر من كتاب المغازى، ويأتي شرح آخره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ الْأَلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ فَقَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا الشرح: حديث سهل بن سعد في قصة الذي قتل نفسه وفي آخره " وإنما الأعمال بالخواتيم " وتقدم شرح القصة في غزوة خيبر من كتاب المغازى، ويأتي شرح آخره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى وقوله " غناء " بفتح المعجمة بعدها نون ممدود أي كفاية، وأغنى فلان عن فلان ناب عنه وجرى مجراه. وذبابة السيف حده وطرفه. قال ابن بطال: في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة وتدبير لطيف، لأنه لو علم وكان ناجيا أعجب وكسل وإن كان هالكا ازداد عتوا فحجب عنه ذلك ليكون بين الخوف والرجاء، وقد روى الطبري عن حفص بن حميد قال: قلت لابن المبارك رأيت رجلا قتل رجلا ظلما فقلت في نفسي أنا أفضل من هذا، فقال: أمنك على نفسك أشد من ذنبه. قال الطبري: لأنه لا يدري ما يؤول إليه الأمر لعل القاتل يتوب فتقبل توبته، ولعل الذي أنكر عليه يختم له بخاتمة السوء.
|